في حضرة المتحف المصري الكبير... ميلادٌ جديد لحضارة لا تموت

الأحد، 02 نوفمبر 2025 08:40 م

يسرى درويش

يسرى درويش

بقلم : يسري درويش

رئيس الاتحاد العام للمراكز الثقافية في فلسطين

في ليلة تُسطَّر في ذاكرة التاريخ، احتفلت مصر بافتتاح المتحف المصري الكبير، ذلك الصرح الفريد الذي طال انتظاره ليُطلّ على العالم من جوار الأهرامات، حارسًا لحضارة تمتد جذورها إلى أكثر من سبعة آلاف عام.

كان المشهد أشبه بلوحة أسطورية؛ موسيقى تتعانق مع الضوء، وأداء فني مدهش يجمع بين الأصالة والمعاصرة، في حفل عالمي شهدته أنظار الملايين داخل مصر وخارجها.

المتحف المصري الكبير لم يكن مجرد افتتاح لمبنى أثري جديد، بل ميلادًا لعصر ثقافي وسياحي جديد لمصر. فالمتحف الذي يضم أكثر من مئة ألف قطعة أثرية، بينها المجموعة الكاملة للملك توت عنخ آمون، يُعدّ الأكبر في العالم المكرَّس لحضارة واحدة. وقد صُمّم ليكون جسرًا بين عبقرية الماضي وإبداع الحاضر، حيث تلتقي فيه روح الأجداد مع تطلعات الأجيال القادمة.

في الخارج، كانت الأهرامات العتيقة تلوّح للمتحف كأنها ترحّب بالوافد الجديد إلى ميدان الخلود، بينما تزيّنت سماء الجيزة بأضواء مبهرة رسمت لوحة مهيبة فوق الواجهة الزجاجية العملاقة. الإضاءة الذكية صاغت مشهدًا بصريًا يأسر الأبصار، والموسيقى التي عزفتها الأوركسترا المصرية حملت مزيجًا من الأصالة والهيبة، فبدت وكأنها ترجمة صوتية لعظمة المكان وروح الزمان.

في حضرة الجمال والدهشة، وأمام مشهد يأسر القلب والعقل معًا، يقف الزائر مبهورًا، تتسارع أنفاسه كأنه على موعد مع لحظة خالدة في ذاكرة التاريخ. إنه المتحف المصري الكبير، ذلك الصرح الأسطوري الذي أطلّ على العالم من قلب مصر، حارسًا لحضارتها التي علمت الإنسانية معنى الإبداع، ومجددًا لعهدها مع الخلود والجمال.

ما أن تطأ الأقدام بواباته الفخمة حتى تشعر أن الزمان قد توقّف احترامًا لعظمة المكان. أهرامات الجيزة تقف في الأفق كأنها تبارك مولودًا جديدًا من رحم التاريخ، والمتحف من الداخل يفيض بالحياة كأنه معبد معاصر يعانق الماضي ليمنحه حضورًا جديدًا في وجدان الحاضر والمستقبل.

تتألق اللوحة الكبرى في صالة العرض كأنها قصيدة من ضوء وحجر وألوان، تحمل في طياتها لوحات عالمية تفوق الخيال، تنسج حكايات الإنسانية عبر العصور، وتروي قصة الإنسان المصري الذي عرف منذ فجر التاريخ كيف يصوغ الجمال في أدق تفاصيل الحياة. كل قطعة أثرية هناك تنبض بالروح، تهمس للزائرين بلغات الزمن عن عبقرية الأجداد وإيمانهم بالخلود.

وما أن تعزف الأوركسترا مقطوعاتها في افتتاح مهيب حتى تشعر أن الموسيقى نفسها تنحني احترامًا لعظمة المكان. أنغامها تتسلل إلى الأرواح، ترفعها إلى سماوات من السحر والدهشة. فرق الأداء تعزف بأجسادها لغة الفن، والإضاءة المبهرة ترسم على الجدران سيمفونية من النور، تجعل المشهد لوحة متكاملة من الإبداع البشري الذي لا يُضاهى.

يا له من فخر أن ترى مصر أم الدنيا تفتح ذراعيها للعالم من جديد، لا لتعرض ماضيها فحسب، بل لتؤكد أن حضارتها لم ولن تغب عنها شمس الإبداع. هذا الافتتاح ليس مجرد حدث ثقافي، بل هو إعلان صريح بأن مصر قادرة على أن تصنع الجمال كما صنعته قبل آلاف السنين، وأنها باقية في صدارة الحضارة، تقود الفن والعلم والثقافة من جديد.

في المتحف المصري الكبير تتوحد الأزمنة: الماضي العريق، والحاضر الزاهر، والمستقبل المشرق. هناك يشعر المصري بأن جذوره تمتد إلى أعماق التاريخ، ويشعر الزائر بأن مصر ليست مجرد وطن، بل فكرة أبدية للحياة والجمال.

نعم، إن الفخر بمصر لا يُختصر في كلمات، ولا تُحيط به العبارات، لكنه يتجسد في كل حجر، وكل تمثال، وكل نغمة موسيقية خرجت في تلك الليلة لتقول للعالم: هنا مصر... وهنا بدأ التاريخ... وهنا يستمر الخلود.

search