دستور أوكرانيا: مصدر السيادة، واستمرارية الشرعية، وبوصلة نحو المستقبل
الجمعة، 27 يونيو 2025 04:07 م

اوكرانيا
في الثامن والعشرين من يونيو، تحتفل أوكرانيا بيوم الدستور – يوم لا يقتصر على رمزيته القانونية فحسب، بل يحمل أيضًا أبعادًا تاريخية وسياسية وحضارية عميقة. فالدستور بالنسبة للأمة الأوكرانية ليس مجرد القانون الأعلى في الدولة، بل هو رمز لاستمرارية الدولة، وأداة لحماية الحرية، وضمانة للتقدّم الديمقراطي. وفي صلب هذا النص المؤسس تتجلى كرامة الإنسان، واستقلال الدولة، ووحدة أراضيها. وتستند هذه الفلسفة القانونية إلى جذور تاريخية ضاربة في القدم.
جذور الدستورية الأوكرانية: من فيليب أورليك إلى يومنا هذا
تعود بدايات الفكر الدستوري الأوكراني إلى القرن الثامن عشر، حين أعلن القائد المنتخب في المنفى، فيليب أورليك، بالتعاون مع كبار قادة القوزاق، دستورًا سنة 1710، وذلك بعد الهزيمة أمام الروس في معركة بولتافا واضطرارهم إلى مغادرة الأراضي الأوكرانية برفقة الحليف إيفان مازيبا. ويُعد هذا الدستور من أوائل المحاولات الأوروبية لترسيخ مبادئ الحكم المقيد والسلطة البرلمانية. فقد نصّ بوضوح على صلاحيات القائد العام (الهتمان)، وعلى القيود المفروضة عليه، وعلى دور المجلس العام (الذي يشبه البرلمان)، كما حدّد حقوق القوزاق وسائر فئات المجتمع الأوكراني. ورغم أن هذا الدستور لم يدخل حيّز التنفيذ بسبب الظروف السياسية الخارجية واحتلال موسكو المستمر لمناطق القوزاق، فإنه ترك بصمة بارزة في مسيرة الفكر القانوني الأوروبي، وأرسى دعائم الثقافة السياسية الأوكرانية القائمة على الديمقراطية، وحكم القانون، ومبدأ الفصل بين السلطات.
وفي مراحل لاحقة، سعى الشعب الأوكراني مرارًا إلى تجسيد حقه في تقرير المصير عبر صيغ دستورية متعاقبة. ففي القرن التاسع عشر، ظهرت في أراضي غاليتسيا الخاضعة للملكية النمساوية المجرية مظاهر من الحكم الذاتي والتمثيل البرلماني والأسس القانونية. وفي القرن العشرين، شهدت هذه التوجهات تطورًا ملموسًا، حيث جاءت دستور جمهورية أوكرانيا الشعبية لعام 1918 خطوة إضافية نحو بناء دولة قانونية ديمقراطية، تضمن المساواة بين المواطنين، وحماية الحقوق والحريات. كما جسّدت وثائق زاخيدنا أوكرانيا (جمهورية غرب أوكرانيا الشعبية)، رغم قصر عمرها، الرغبة في تأطير الاستقلال بقانون ودستور.
حتى في ظل الاحتلال السوفيتي، احتفظت الدولة الأوكرانية بشكلها القانوني الدستوري. فدساتير الجمهورية الاشتراكية السوفيتية الأوكرانية، بدءًا من عام 1919 ثم 1937 و1978، رغم خضوعها لمنظومة السلطة المركزية الشيوعية، حافظت من الناحية الشكلية على مقومات السيادة، وهو ما ساعد لاحقًا على استعادة الاستقلال سنة 1991. وقد أتاح الوجود القانوني الرسمي للجمهورية آنذاك لأوكرانيا أن تكون من الدول المؤسسة للأمم المتحدة، وأن تستند إلى الشرعية الدولية لاستعادة استقلالها الكامل لاحقًا.
دستور عام 1996: الأساس القانوني للدولة المستقلة
في ليلة السابع والعشرين إلى الثامن والعشرين من يونيو 1996، أقرّ البرلمان الأوكراني، بعد نقاشات طويلة وشاقة، دستور أوكرانيا المستقلة. وقد شكّل هذا الحدث علامة فارقة في التاريخ الوطني، حيث كرس السيادة الوطنية، والنظام الديمقراطي، ومبدأ الفصل بين السلطات، وضمان حقوق الإنسان وحرياته، وعدم قابليّة الأراضي الأوكرانية للتجزئة.
لقد مهّد هذا الدستور الطريق لتحول أوكرانيا من جمهورية ما بعد سوفيتية إلى دولة ديمقراطية كاملة، منفتحة على العالم. ولم يقتصر الدستور على إقرار اللغة الأوكرانية كلغة رسمية، بل ثبت أيضًا مبادئ المساواة بين المواطنين بغض النظر عن الأصل العرقي أو الدين أو الرأي. كما نصّ صراحة على قدسية وحدة الأراضي الأوكرانية وعدم المساس بها.
التطوير والتحديث: الدستور ككائن حيّ
على الرغم من ثباته المؤسسي، فإن دستور أوكرانيا لم يكن نصًا جامدًا. فعلى مدى أكثر من ربع قرن، خضع لتعديلات تعكس تطور النظام السياسي، وتلبية تطلعات المجتمع، ومواجهة التحديات الخارجية. ومن أبرز تلك المحطات، الإصلاح الدستوري عام 2004 الذي عزز دور البرلمان، بهدف تحقيق توازن أفضل بين السلطات. ورغم تعليق هذا الإصلاح سنة 2010، فقد أعيد العمل به بعد ثورة الكرامة عام 2014 استجابة لمطالب المجتمع بالشرعية الديمقراطية وسيادة القانون.
وفي عام 2019، أُدخلت تعديلات جوهرية على الدستور، تم بموجبها تثبيت خيار التكامل الأوروبي واليورو-أطلسي بوصفه مسارًا استراتيجيًا للدولة. ولم تكن هذه الخطوة مجرد إعلان، بل تجسيدًا لإجماع سياسي وإرادة شعبية بالانضمام إلى منظومة أمنية وقيمية ومعيارية تضمن السيادة والازدهار والتقدم.
الاستفتاءات ووحدة الأراضي: القانون فوق المسرحيات
يولي دستور أوكرانيا أهمية قصوى لمبدأ الاستفتاء الشعبي كأداة من أدوات الديمقراطية المباشرة. وتنص المادة 73 من القانون الأساسي على أن مسألة تغيير حدود الدولة لا يمكن أن تُبت إلا عبر استفتاء عام على مستوى البلاد، يجري وفقًا للمبادئ الدستورية، وتحت رقابة القانون، وبضمانات الشفافية والمشاركة العامة، والاعتراف الدولي.
ولهذا، فإن جميع ما يسمى بـ"الاستفتاءات" التي تنظمها روسيا في الأراضي الأوكرانية المحتلة مؤقتًا – في القرم ودونيتسك ولوهانسك وزابوريجيا وخيرسون – باطلة من أساسها، ولا تمتلك أي شرعية قانونية، لا داخل أوكرانيا ولا في القانون الدولي. فهذه المسرحيات الزائفة، التي نُفذت تحت تهديد السلاح، دون وجود مراقبين دوليين، وبانتهاك صارخ للقانون الأوكراني والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، لا تعدو أن تكون أدوات دعاية تهدف إلى تبرير العدوان وشرعنة الاحتلال. ومن يؤمن بسيادة القانون، لا يمكنه الاعتراف بمثل هذه "الاستفتاءات" الزائفة.
الدستور كبوصلة: دروس الحاضر وآفاق المستقبل
إن دستور أوكرانيا في يومنا هذا ليس نصًا قانونيًا وحسب، بل أداة يومية للنضال في سبيل الحرية، والسيادة، والكرامة الوطنية. ففي ظل الحرب التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا، يشكل الدستور الدعامة التي يرتكز عليها توازن السلطات، ويضمن عمل المؤسسات، ويحمي حقوق المواطنين، ويرسم مسار الدولة نحو المستقبل.
وفي عالم يشهد تقلبات واضطرابات متسارعة، تقدم أوكرانيا مثالًا حيًا على أن الدستور قد يكون، إلى جانب كونه قانونًا، تعبيرًا عن صلابة الروح. فهو يُرسخ مبادئ لا تقبل المساومة: السيادة، والكرامة، والحرية، وسيادة القانون، ووحدة الأرض. ومن هذا المنطلق، فإن التجربة الأوكرانية تشكل رسالة للدول الأخرى التي تسعى إلى التوازن بين الاستقرار والحرية، بين الأمن والكرامة.
إن دستور أوكرانيا ليس مجرد قانون أعلى، بل هو من أهم عناصر الهوية الوطنية، وأداة مقاومة، ودليل نحو المستقبل
نسخ الرابط للمقال
آخبار تهمك
شواطئ بورسعيد تستقبل آلاف الزوار خلال عطلة نهاية الأسبوع
27 يونيو 2025 09:37 م
أكثر الكلمات انتشاراً