هل نحن أمام فجر جديد أم إعادة تدوير الماضي
الأربعاء، 19 نوفمبر 2025 04:37 م
خالد ابو شرخ
بقلم خالد ابو شرخ
منذ أكثر من ثلاثين عاما والقضية الفلسطينية تتنقل بين خرائط سياسية كبرى صنعت لحظات امل قصيرة ثم انتهت الى جمود طويل او انفجار جديد. اتفاق اوسلو عام 1993 كان البداية التي اعتقد كثيرون انها ستغير وجه الشرق الاوسط لكنه تحول بسرعة الى مساحة رمادية تتعايش فيها الادارة المدنية المحدودة مع توسع الاستيطان وغياب الحل النهائي. ثم جاءت المبادرة العربية عام 2002 لتقلب المعادلة وتقدم طرحا مباشرا وبسيطا الارض مقابل السلام انسحاب كامل مقابل تطبيع كامل لكنها اصطدمت برفض اسرائيلي ثابت. وبعدها بسنوات ظهرت صفقة القرن عام 2020 التي قدمت رؤية مختلفة تماما رؤية امنية اولا واقتصاد قبل السياسة وكيان فلسطيني محدود السيادة على مساحة مجزأة لا تشبه الدولة كما تصورها الفلسطينيون ولا كما تحدثت عنها الشرعية الدولية. واليوم يأتي القرار الاممي الجديد المصحوب بالخطة الامريكية لانهاء صراع غزة ليعلن مرحلة جديدة تحاول اعادة هندسة القطاع واعادة ترتيب المشهد الفلسطيني من جذوره لكنه في الوقت نفسه يحمل ظلال المبادرات السابقة ويثير سؤالا كبيرا هل نحن امام فجر جديد ام فقط امام اعادة تدوير الماضي بثوب مختلف
لإدراك مكان هذا القرار في التاريخ السياسي يجب العودة الى الفلسفة التي حكمت كل مبادرة سابقة. اوسلو اعتمدت على فكرة المرحلة الانتقالية وبناء الثقة عبر سلطة فلسطينية محدودة تمهد لدولة في النهاية. تلك الدولة لم تأت لا بسبب الخلافات ولا بسبب الوقائع على الارض. المبادرة العربية على عكس اوسلو لم تؤجل الدولة بل وضعتها شرطا لازما للحل انسحاب كامل من اراضي 1967 عاصمة في القدس الشرقية ثم تطبيع عربي شامل. بينما صفقة القرن اعادت تعريف معنى الدولة نفسها اذ حولتها الى كيان منزوع السلاح منقطع الاطراف مرتبط امنيا وسياسيا بالتصورات الاسرائيلية اكثر من ارتباطه بالشرعية الدولية. القرار الجديد يجمع عناصر من هذه النماذج ولكنه لا ينتمي بالكامل الى اي منها فهو يضع غزة في مركز العملية السياسية ويمنح المجتمع الدولي دورا لم يحصل عليه من قبل من خلال مجلس سلام وادارة انتقالية وقوة استقرار دولية تشرف على كل شيء من الامن الى الخدمات الى اعادة الاعمار
هذا التحول يجعل غزة الميدان الذي يحدد مستقبل القضية. كانت غزة في اوسلو ملحقا وكانت في المبادرة العربية جزءا من معادلة اوسع وفي صفقة القرن بندا ضمن رؤية اقتصادية. اما اليوم فهي محور الخطة كلها المكان الذي يبدأ منه اي مسار سياسي فلسطيني او ينتهي فيه. ولذلك فالقرار يحمل طابعا عمليا واضحا فهو لا يكتفي بالتصريحات بل يقدم ادوات تنفيذ ادارة انتقالية على رأسها مجلس سلام يشرف على لجنة تكنوقراطية فلسطينية ويضع شروطا واضحة لنزع السلاح كما يقدم قوة دولية تتمتع بصلاحيات واسعة لضبط الحدود ومنع عودة البنية العسكرية وحماية المدنيين. هذه النقلة من التنسيق الامني المحدود في اوسلو الى الوصاية الامنية الدولية الكاملة في القرار الجديد خطوة غير مسبوقة يمكن ان توفر الامن والاستقرار لكنها تثير مخاوف حقيقية بشأن السيادة الفلسطينية ومن يملك القرار على الارض وكيف ستتم اعادة السلطة الى الفلسطينيين لاحقا
ومن حيث الهدف السياسي تبدو المقارنة اكثر تعقيدا. المبادرة العربية وضعت الدولة في البداية ايمانا بأن الحل النهائي يجب ان يكون مدخلا للاستقرار الطويل. اوسلو اجلت الدولة الى المرحلة النهائية ودفعت ثمن هذا التأجيل لاحقا. صفقة القرن قلصت فكرة الدولة الى اقصى الحدود. اما القرار الجديد فلا يقدم دولة ولا ينفيها بل يضعها هدفا مشروطا ياتي بعد نزع السلاح وبعد الاصلاحات وبعد نجاح الادارة الانتقالية وبعد اعمار غزة. الدولة هنا افق بعيد قد يتحقق وقد لا يتحقق وهو افق لا تسنده اليات ملزمة. وهذه النقطة تجعل القرار اقرب الى منطق اوسلو من حيث التأجيل لكنه محاط ببنية دولية ضخمة لم تعرفها اوسلو مما يمنحه قدرة اكبر على التنفيذ لكن ايضا يجعله اكثر حساسية تجاه القبول الشعبي الفلسطيني
القضية الاخرى التي تكشف موقع القرار بين المبادرات السابقة هي مسألة الشرعية. اوسلو كانت مبادرة فلسطينية اسرائيلية شارك فيها ممثلون شرعيون من الجانبين. المبادرة العربية اعتمدت الشرعية العربية الرسمية وصفقة القرن اعتمدت القيادة الامريكية مع اقصاء الفلسطينيين. القرار الجديد يقدم نموذجا هجينا فهو يعتمد ادارة دولية يرأسها ترامب لكنه يشرك دولا عربية واقليمية ويضع لجنة فلسطينية تكنوقراطية لا تأتي عبر صناديق الاقتراع. وهذا يجعل الشرعية السياسية نقطة ضعف محتملة فالخطة مهما كانت محكمة لن تنجح اذا رفضها المجتمع الفلسطيني او شعر بانها مفروضة عليه او انها تنتقص من حقه في تقرير مصيره
ويبقى السؤال الحاسم هل القرار يمثل فجر مرحلة جديدة ام انه يعيد انتاج الماضي. لا شك ان الخطة تقدم عناصر لم تظهر في اي مبادرة سابقة ادارة انتقالية دولية اعمار شامل عبر تمويل منظم قوة استقرار بصلاحيات كاملة اطلاق اسرى وتوقف فوري للحرب وربط حقيقي بين نزع السلاح والانفتاح الاقتصادي. هذه خطوات قد تمنح غزة ما افتقدته منذ سنوات طويلة بيئة مستقرة يمكن ان تبني عليها نهضة جديدة. ولكن في المقابل يحمل القرار ملامح اعادة التدوير فهو يكرر منطق التأجيل السياسي الذي عرفته اوسلو ويرث من صفقة القرن مركزية الدور الامريكي واولوية الامن على السياسة ويتقاطع مع المبادرة العربية في الحاجة الى تعاون اقليمي واسع دون ان يقدم ضمانات ملزمة لتحقيق الدولة في نهاية الطريق
بين كل هذه العناصر تتشكل صورة معقدة ليست نهضة خالصة ولا تكرارا كاملا للماضي بل مرحلة انتقالية تقف على مفترق طرق تاريخي. نجاحها او فشلها لن يتحدد بالبند المكتوب بل بقدرة الفلسطينيين على فرض دورهم وقدرة العرب على تشكيل مظلة داعمة وقدرة المجتمع الدولي على تنفيذ وعوده دون ان يتحول الى سلطة فوقية. السؤال الحقيقي ليس هل الخطة جيدة ام سيئة بل هل يمكن تحويلها من مشروع امني الى مسار سياسي وهل تستطيع غزة ان تخرج من عباءة الحرب نحو نموذج جديد
وفي النهاية يبقى الرهان الحقيقي على قدرة الشعب الفلسطيني ذاته. فاذا استطاع الفلسطينيون اعادة بناء مؤسساتهم واجراء انتخابات حرة وشفافة وتوحيد قرارهم الوطني فإن الطريق نحو الدولة المستقلة وعاصمتها القدس لن يبقى حلما مؤجلا بل يصبح استحقاقا تاريخيا تفرضه ارادة شعب لا يتراجع ولا ينكسر
نسخ الرابط للمقال
آخبار تهمك
الصحة تغلق 11 مركزًا غير مرخص لعلاج الإدمان بحدائق الأهرام بالجيزة
19 نوفمبر 2025 02:45 م
هيئة الرعاية الصحية تطلق عيادة متخصصة لأمراض الكلى للأطفال بالإسماعيلية
19 نوفمبر 2025 02:09 م
الأكثر قراءة
-
هل نحن أمام فجر جديد أم إعادة تدوير الماضي
-
محمد صبحي يغادر المستشفى بعد تعافيه ويعود إلى منزله
-
وزير الخارجية يثمن العلاقات الثنائية المتميزة بين مصر وألمانيا على مختلف الأصعدة
-
وزير الخارجية يؤكد لنظيره الفرنسي أهمية تنفيذ قرار مجلس الأمن الأخير الخاص بغزة
-
البرلمان الأوكراني يقيل وزير العدل بعد تحقيق كشف فسادًا واسعًا بقطاع الطاقة
أكثر الكلمات انتشاراً